الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)}.قوله تعالى: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ}: فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل: إنهم فتيةٌ آمنوا بنا. وقوله: {وزِدْناهُم} {وَرَبَطْنا} التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضًا.{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)}.قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ}: منصوبٌ ب {رَبَطْنا} والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ.قوله: {إذًا} جوابٌ وجزاءٌ، أي: لقد قُلنا قولًا شَطَطًا إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهًا. وشَطَطًا في الأصل مصدرٌ، يقال: شَطَّ شَطَطًا وشُطُوطًا، أي: جارَ وتجاوزَ حَدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوْمِ، وأَشَطَّ، أي: جاوَزَ القَدْرَ. وشَطَّ المنزلُ: بَعُدَ، من ذلك. وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطًا، طالَتْ، من ذلك. وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر {قُلْنا}. الثاني: نعتٌ لمصدرٍ، أي: قولًا ذا شَطَطٍ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً. الثالث: أنه مفعولٌ ب {قُلْنا} لتضمُّنِه معنى الجملة.قوله تعالى: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا}: يجوز في {قومُنا} أن يكونَ بدلًا أو بيانًا، و{اتَّخذوا} هو خبرُ {هؤلاء}، ويجوز أن يكونَ {قومُنا} هو الخبرَ، و{اتَّخذوا}: حالًا. واتَّخذ يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا، و{مِنْ دونِه} هو الثاني قُدِّمَ، و{آلهةً} هو الأولُ. وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في {مِنْ دونِه} أن يتعلَّقَ ب {اتَّخذوا}، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالًا مِنْ {آلهة} إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً لـ: {آلهةً}.قوله: {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} تخصيصٌ فيه معنى الإِنكار. و{عليهم}، أي: على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به. ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ التخضيضية صفةً لـ: {آلهةً} لفساده معنى وصناعةً، لأنها جملةٌ طلبيةٌ. فإنْ قلت: أُضْمِرُ قولًا كقوله:لم يساعِدْك المعنى لفسادِه عليه. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:قوله جلّ ذكره: {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ}.لمَّا كانوا مأخوذين عنهم تولَّى الحق- سبحانه- أَنْ قصَّ عنهم، وفَرْقٌ بين من كان عن نفسه وأوصافه قاصًا؛ لبقائه في شاهده وكونه غيرَ منتفٍ بجملته.. وبين من كان موصوفًا بواسطة غيره؛ لفنائه عنه وامتحائه منه وقيام غيره عنه.ويقال لا تُسَمعُ قصةُ الأحباب أعلى وأَجَلّ مما تُسْمعُ من الأحباب، قال عزَّ من قائل: {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ}، وأنشدوا:قوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ}: يقال إنهم فتية لأنهم آمنوا- على الوهلة- بربِّهم، آمنوا من غير مهلة، لمَّا أتتهم دواعي الوصلة.ويقال فتية لأنهم قاموا لله، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله.قوله جلّ ذكره: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُُوبِهِمْ}.لاَطفهم بإحضارهم، ثم كاشفهم في أسرارهم، بما زاد من أنوارهم، فلقَّاهم أولًا التبيين، ثم رقّاهم عن ذلك باليقين.{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}: بزيادة اليقين حتى متع نهار معارفهم، واستضاءت شموسُ تقديرهم، ولم يَبْقَ للتردد مجالٌ في خواطرهم، و... في التجريد أسرارهم، وتَمَّتْ سكينةُ قلوبهم.ويقال: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}: بأن أفنيناهم عن الأغيار، وأغنيناهم عن التفكُّر بما أوليناهم من أنوار التبصُّر.ويقال ربطنا على قلوبهم بما أسكَنَّا فيها من شواهِدِ الغيب، فلم تسنح فيها هواجسُ التخمين ولا وساوس الشياطين.قوله جلّ ذكره: {إِذْ قَامُوا فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ}.قاموا لله بالله، ومَنْ قام بالله فُقِدَ عمَّا سوى الله.ويقال من قام لله لم يقعد حتى يصلَ إلى الله.ويقال قعدت عنهم الشهوات فَصَحَّ قيامُهم بالله.قوله جلّ ذكره: {لَن نَّدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًَا}.مَنْ أحال الشيءَ على الحوادث فقد أشرك بالله، ومَنْ قال إِنَّ الحوادث من غير الله فقد اتخذ إلهًا مِنْ دون الله.{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}.لمَّا لم يكن لهم حجة اتضح فيما ادعوه كذبُهم، فمن اكتفى بِنَفْي القالة دون ما يشهد لقوله من أدلته فهو معلول في نحلته.{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؟ فمن ذَكَرَ في الدِّين قولًا لم يؤيَّد ببرهان عقلي أو نقلْي فهو مفترٍ، ومَنْ أظهر مِنْ نَفْسه حالًا لم يوجبه صدق مجاهدته أو منازلته فهو على الله مُفْتَرِ. والذي يصدق في قوله- في هذه الطريقة- فهو الذي يسمع من الحق بسرِّه، ثم ينطق بلفظه. اهـ. .قال ابن القيم: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفتوة:هذه المنزلة حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم واحتمال أذاهم فهي استعمال حسن الخلق معهم فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله والفرق بينها وبين المروءة: أن المروءة أعم منها فالفتوة نوع من أنواع المروءة فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره والفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق فهي ثلاثة منازل: منزلة التخلق وحسن الخلق ومنزلة الفتوة ومنزلة المروءة وقد تقدمت منزلة الخلق وهذه منزلة شريفة لم تعبر عنها الشريعة باسم الفتوة بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وأصل الفتوة من الفتى وهو الشاب الحديث السن قال الله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13] وقال عن قوم إبراهيم أنهم {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وقال تعالى عن يوسف {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] وقال لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62].فاسم الفتى لا يشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث ولذلك لم يجيء اسم الفتوة في القرآن ولا في السنة ولا في لسان السلف وإنما استعمله من بعدهم في مكارم الأخلاق وأصلها عندهم: أن يكون العبد أبدا: في أمر غيره وأقدم من علمته تكلم في الفتوة جعفر بن محمد ثم الفضيل بن عياض والإمام أحمد وسهل بن عبدالله والجنيد ثم الطائفة فيذكر أن جعفر بن محمد سئل عن الفتوة فقال للسائل: ما تقول أنت فقال: إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال: الكلاب عندنا كذلك فقال السائل: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الفتوة عندكم فقال: إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا وقال الفضيل بن عياض: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبدالله عنه وقد سئل عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى ولا أعلم لأحد من الأئمة الأربعة فيها سواه.وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا وقال الحارث المحاسبي: الفتوة أن تنصف ولا تنتصف وقال عمر بن عثمان المكي: الفتوة حسن الخلق وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن تكون خصما لربك على نفسك وقيل: الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك وقال الدقاق: هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي وهو يقول: أمتي أمتي وقيل: الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى وهو نفسك فإن الله حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه جعل الأصنام جذاذا فكسر الأصنام له فالفتى من كسر صنما واحدا في الله وقيل: الفتوة أن لا تكون خصما لأحد يعني في حفظ نفسك وأما في حق الله فالفتوة: أن تكون خصما لكل أحد ولو كان الحبيب المصافيا وقال الترمذي: الفتوة أن يستوي عندكم المقيم والطارئ وقال بعضهم: الفتوة أن لا يميز بين أن يأكل عنده ولي أو كافر وقال الجنيد أيضا: الفتوة كف الأذى وبذل الندى وقال سهل: هي اتباع السنة وقيل: هي الوفاء والحفاظ وقيل: فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها وقيل: أن لا تحتجب ممن قصدك وقيل: أن لا تهرب إذا أقبل العافي يعني طالب المعروف وقيل: إظهار النعمة وإسرار المحنة وقيل: أن لا تدخر ولا تعتذر وقيل: تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني ثم قال: عميت فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها فقيل له: سبقت الفتيان وقيل: ليس من الفتوة أن تربح على صديقك.واستضاف رجل جماعة من الفتيان فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فانقبض واحد منهم وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال فقال آخر منهم: أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة فلم يقدم فقالها ثانيا وثالثا فلم يقدم فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا فقال الرجل: لم أبطأت بالسفرة فقال الغلام: كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد فلبثت حتى دب النمل فقالوا: يا غلام مثلك يخدم الفتيان ومن الفتوة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة ففقد هميانا فيه ألف دينار فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال: أخذت همياني فقال: أي شيء كان فيه قال: ألف دينار فأدخله داره ووزن له ألف دينار ثم إن الرجل وجد هميانه فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال فأبى أن يقبله منه وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا فقال الرجل للناس: من هذا فقالوا: هذا جعفر بن محمد رضي الله عنه فصل قال صاحب المنازل نكتة الفتوة: أن لا تشهد لك فضلا ولا ترى لك حقا يقول: قلب الفتوة وإنسان عينها: أن تفنى بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم والناس في هذا مراتب فأشرفها: أهل هذه المرتبة وأخسها: عكسهم وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم.وأوسطهم: من شهد هذا وهذا فيشهد ما في العيب والكمال ويشهد حقوق الناس عليه وحقوقه عليهم قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: ترك الخصومة والتغافل عن الزلة ونسيان الأذية هذه الدرجة من باب الترك والتخلي وهي أن لا يخاصم أحدا فلا ينصب نفسه خصما لأحد غيرها فهي خصمه وهذه المنزلة أيضا ثلاث درجات لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه ولا يخطرها على باله هذا في حق نفسه وأما في حق ربه: فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله ويحاكم إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: وبك خاصمت وإليك حاكمت وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها: أظهر أنه لم يرها لئلا يعرض صاحبها للوحشة ويريحه من تحمل العذر وفتوة التغافل: أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية.قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت فقال حاتم: ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصم فسرت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقب بحاتم الأصم وهذا التغافل هو نصف الفتوة وأما نسيان الأذية فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى ليصفو قلبك له ولا تستوحش منه قلت: وهنا نسيان آخر أيضا وهو من الفتوة وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه حتى كأنه لم يصدر منك وهذا النسيان أكمل من الأول وفيه قيل:
|